Mangal Media

View Original

من "جيزي بارك" إلى الانقلاب: عن جائحة الكسل الفكري

English | Türkçe

رويدا رويدا، ما تزال تتلاحق المعلومات، وتتكشف حقائق جديدة، حول الانقلاب العسكري، الأخير الذي شهدت معه تركيا ليلة دامية في الـ15 من تموز- يوليو الماضي.

توحد نداء جميع قادة أحزاب المعارضة، على احترام الإرادة الشعبية. هذا شمل حتى، (صلاح الدين دميرتاش) الذي يعد من الناحية العملية، الممثل السياسي للشعب الكردي في تركيا. وفيما يَعتبر الكورد أنفسهم، في طليعة الفئات ضحايا الحكم القمعي للحكومة الحالية، صرح (دميرتاش) بدعمه الواضح للحكومة المدنية: "إن من الشرعي تماما، المقاومة في الشارع دفاعًا عن ممثِّلي الشعب، المنتخبين".

على ضفةٍ مقابلة، فإن فئةً أخرى في تركيا، لطالما لمست في نفسها التقدم وتفتُّحَ المدارك، سرعان ما فاجأت الجميع خلال هذا الاستحقاق المهم، بسلوكٍ ينم عن خيبة أملها إزاء فشل الانقلاب.

طبعا، لنا هنا أن نشكك في الفائدة التي قد تُرجى، من الاكتراث، أصلاً، بصفوةٍ من المفكرين مرهَفي الحس، لكن المؤكد أيضا أن الوقت حان لتفحص مسؤوليات هؤلاء، ممن تصدروا طاولات النقاش العامة بسبب امتيازاتهم الخاصة. طغمةٌ ادعوا امتلاك ذكاء فوق العادة، هم اليوم عُزّلٌ بمواجهة حقيقةِ أنهم لا يمتلكون هذه المقدرة المدَّعاة..

ليس هناك ما هو أكثر، من أَمارات الفشل والبؤس التي أبدَوْها، منها مثلا أن أقصى ما مكّنتهم منه الثقة غير المبررة تلك، بالتفوق العقلي والحضاري، الاندفاعُ وراء صورة قديمة تطوف شبكة الانترنت، وما أكثر الصور القديمة الملفَّقة، على شبكة الإنترنت!

من الواضح، أن نخبة المجتمع لدينا غيرُ معتادةٍ على أن يتعرض منطقُها للمساءلة، ولذا قام هؤلاء على وجه السرعة، بحياكة مؤامرة غاية في الرخص، ظنا منهم أن ما يفعلونه شكلٌ من استباق الجمهور، في الوقت الذي هم غارقون فيه، بمحدوديّتهم الناجمة عن كبرياءٍ فارغٍ وأرعن.

عندما خمّنوا في 2013، أننا على أعتاب ثورةٍ تنطلق من مُتنزَّه جيزي، كانت مصر أمام انقلابٍ حقيقيّ ضد ثورتها الشبابية. وفي الـ14 من آب أغسطس 2013، نفذت أجهزة الدولة مذبحةً بحقّ 635 شخصا على أقل التقديرات، من المرتبطين بحركة الإخوان المسلمين، من محازِبين أو مناصرين. أثناء الصلاة، وعلى يد جيشـ"هم"، سقط متظاهرون سلميون قتلى، أما المُفتَتِنون بألعوبة الثورة في المتنزَّهات، "الرفاق" حتى وقتٍ قريب، فقد هجروا ضمائرهم في هذا الاستحقاق أيضا، بالتبرّؤ من وقفات الحداد على هذه المجزرة، في تركيا.

في النهاية، ليس خاطئا تماما، أن حكومة العدالة والتنمية، استخدمت الانقلاب الدمويّ في مصر، للتغطية على سياساتها القمعية الخاصة، لكنّ اللافت أننا شهدنا حينها، صعودا لتلك العقلية العاجزة، أو المتعاجزة عن إدراك حجم المأساة والكارثة، والمصمِّمة على كشف "خطط سرية" ومحاسبة نوايا خبيثة وراء الرغبة الشعبية بنعي الضحايا.

تصدت الأوليغارشية العسكرية في مصر، مؤخرا، لمحاولة الأمم المتحدة إصدار بيانِ إدانةٍٍ للانقلاب المجهَض في تركيا، يدعو كذلك إلى "احترام الحكومة المنتخبة من قبل الشعب التركي". نحن إذن أمام تضامن من نوع فريد، ورؤية نخبوية عبر العالم، يحملها قارعو طبول القانون والنظام، وتنفذها مجالس عسكرية مكوَّنة من طغاةٍ صغار، في حين أن منطق القانون ودولة القانون، أحرى به الاعتراض على الحكومات العسكرية التي تذبح شعوبها!

 

لقد كانت محاولة الانقلاب ليلةَ الـ15 من تموز يوليو، تجليا آخر لهذه الرؤية المتعالية. مشاهد العنف عند جسر البوسفور في اسطنبول كانت، حقا، مما يجمد الدم في العروق، وتوجب على الجميع إدانتها بشكل فوريّ، وبصورة لا تقبل اللبس.

لكنّ معضلةً أخلاقية تنبثق مما كمَن بين حماسة شجب الحدث، والرغبة في تصوير العسكريين الذين أطلقوا النار على المدنيين، كضحايا رئيسيين لانقلابٍ بدؤوا به، فصرفُ البعض النظرَ عن الكوارث التي كان يمكن أن تطالنا لو نجح الانقلاب، هو أمرٌ في غاية الحماقة والصفاقة.

الاعتراض على أردوغان وحزبه أمسى تقليدا راسخا لدى كل ردة فعل، حتى وصل الأمر إلى حد استخدام خطاب تحريضيٍّ ستّينيّاتي، عفا عليه الزمان، لتبرير التدخل الخارجي، وإلى حد أن يكون ذلك أمرا مقبولا.

ولكن أليس من المفترَض، في أشخاصٍ تحصّلوا على تعليم جامعي عالٍ، وعلى ترف إنفاق قدْر لا بأس به، من وقتهم للحكم على القضايا الدولية، استثمارُ مواردهم في اتجاه محاولة التوصل، إلى أفكار جديدة قد تساعد في بناء التماسك والوحدة بين طبقات المجتمع المختلفة؟ بدلًا من هذا، يبدو أن المعنيّين منشغلون بالكامل، في كفاحٍ عقيمٍ للتمسك بامتيازاتهم، وصيانة احتكارهم لحق النقاش والتعليق على الحدث، وإطلاق الأحكام.

من المسؤوليات الرئيسية على النخبة الثقافية، التي امتلكت حرية الوصول إلى مصادر نوعية للمعلومات، وتعليم يوفر لها الأدوات اللازمة للتعبير الطلْق والتحليل المنهجي، المساعدةُ على التماسك المجتمعيّ، ودمج الجميع في الفضاء المدنيّ المشترك. بدلا من فعل التنقية للنفوس، النقيّ والضروري، هانحن نراهم منخرطين تماما في حماية مكاسبهم القديمة، مخاطرين بإغلاق طرقٍ عديدةٍ للتواصل، عن طريق تجاهلها. لا يكادون يملكون أي اهتمامٍ جدي آخر، وبينما يتوقع منهم حل العوائق والمشكلات الفكرية، لا تتمخض هذه النخبة عن أي منفعةٍ، لسواها..

مثلما للسباكين، والكهربائيين، وسائقي القطارات في المجتمع، مسؤوليات محددة يتصدون لها بخبراتهم التقنية، على المثقف تقع أيضًا مسؤوليات محددة. لو أن تقنيّي الكهرباء أغلقوا أبوابهم في وجوهنا، وساروا في صفوف مطالبين باحترام حقيقي، لن ينالوا ذلك الحد من الصبر والتفهم، الذي حصلت عليه طبقة المفكرين في تركيا، وهي تعيش انهيارها نحو الانفصام، مع مواصلتها المطالبة بالاحترام، احترامٍ لا يتأتّى لهم من أعمالهم، بل من كونهم هم، من وجودهم بحد ذاته.

نحن أمام فئةٍ تخاف صوت الصلاة، وصيحات (الله أكبر)، بأكثر مما تروّعها القوة العسكرية التي تفتح النار هنالك في الخارج، والطائرات التي تحلق فوقهم هادفةً إلى الترويع!

ليس العنف مما يتمناه أيُّنا، لكن هذا الموقف تكشّف عن عنف من طبيعة مزدوجة. إن على من يشعر أن التعاطف مع جنودٍ بزيهم العسكري، وداخل مدرعاتهم ودباباتهم، أسهل عليه من التعاطف مع مدنيين بعباءات، عليه أن يخجل من عقليّته "المستغربة"، التي في مِضيِّها غربا تؤمن بجدية، أن الإهانات العنصرية الموجهة نحو رئيس البلاد، لا تعنيهم في شيء. حمَلَة  هذه الرؤية المنفصلة عن الواقع، في أمس الحاجة إلى مراجعة عاجلة، سواءٌ شعروا بهذه الحاجة أم لم يفعلوا. ربما يمكن التغاضي عن الافتقار، إلى بوصلة أخلاقية خلال انفعالٍ لحظي، لكن ما يصعب تقبله، ذلك الكسل المزمن، الذي تبدو معه النخبة التقليدية في تركيا أشبه بأطفال يسوقون تباعاً، حججاً باليةً من قبيل: "أكلها الكلب"، إذا ما سُئلوا عن الواجب المدرسي، ذلك ما يبدو عليه مثقفون أتراك، حين يتمسكون بأول نظرية مؤامرة يتلقّفها خاطرهم. يجب على هؤلاء عوضاً عما هم فيه، التوقف قليلا، والتفكير، ومحاولةُ أن يكونوا منتجين معرفيا، بما ينقذنا جميعا من أن نصبح مسؤولين عن النظام العسكري، لا لسببٍ آخر غير الكسل.

وإذا كنا الآن، لسنا واقفين بمواجهة الجدار، في وضعيةٍ بائسة على قدم واحدة وبأيدٍ مقيَّدَةٍ، كما يستحق الطلاب الفاشلون فإننا ندين بذلك، إلى زملائنا في الفصل، من غير النخبويين..
ثم إن الأيام القادمة، تحمل الكثير من الامتحانات الجادة. حظا سعيدا للجميع!