تجربتي في الضفة الغربية

karrikatur.png

لدى العديد منا معرفة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي حتى ولو كان بصورة مبهمة. حيث تتأثر معظم وجهات النظر حول هذا الموضوع بطروحات الاعلام، خصوصاً بالنسبة للأشخاص البعيدين عن الوضع على الأرض ذهنياً وجغرافياً، فلقد ولدنا ونحن نعتقد بأنه عبارة عن صراع ديني أكثر منه صراع على الموارد، صراع أخلاقي من طرف واحد لكننا نختلف بشكل مستمر على تعريف من هو الضحية ومن هو الجاني. لست هنا بصدد الخوض في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد كتب عنه العديد ممن هم على دراية أكثر. هؤلاء ممن كرسوا أنفسهم لهذا الصراع ومخرجاته، أشخاص ممن خسروا وعانوا الكثير ولا يزالوا مستمرين. أما أنا فكنت مجرد زائرة. وهذه المقالة هي حول مشاعري وتجربتي الميدانية على خلفية هذا الصراع.

بالنسبة لي كانت الفترة القصيرة التي قضيتها في الأرض المقدسة بمثابة تجربة سريالية. الوضع على الأرض كان مختلفاً عما توقعته، فالانقسامات الموجودة في المجتمع الفلسطيني مختلفة بعض الشيء عما يتم تداوله في الإعلام. حيث تم إجبار الفلسطينيين على الخروج من منازلهم وهم عرضة بشكل مستمر لانتهاكات حقوق الإنسان. ولقد كنا هناك لإثبات ذلك، فالدور الذي كان من المتوقع أن نلعبه كمتطوعين هو مراقبة، تخفيف وتسجيل هذه الانتهاكات الممارسة من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين.

قبل مغادرتي الفلبين تم إخباري من قبل المنظمة المحلية التي أوفدتني أن جهود المنظمات غير الحكومية لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها الفلسطينيون، حتى ولو كانت بنية حسنة، تجعل من الوضع الخطر الذي يواجهه الفلسطينيون أكثر طبيعية – حيث يترك القدر على نار هادئة من دون أن يغلي تماماً. كما تم تحذيري بأني سوف أواجه صعوبات في العمل مع المتطوعين من ذوي الجنسيات الغربية ممن يعتقدون أنهم يمتلكون معرفة أكبر عن الوضع. فهمت أن هذا نوع من سخرية سكان العالم الثالث ممن نالوا حصتهم من النوايا الحسنة إلى جانب محاولات عديمة الجدوى يؤسسها أثرياء غربيون ذوي الفهم المعدوم أو المحدود بالثقافات المحلية أو أصل الصراعات المختلفة في المنطقة، حيث تقوم تلك البرامج بلعب دور المراقب للوضع على الأرض لتجنب وقوع أحداث مشينة وتبدو عبثية هذه المحاولات جزء متأصل من تكوينها.

مجدداً، كانت المهمة هي مراقبة انتهاكات حقوق الإنسان واكتساب فهم أعمق عن الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي فحقيقة أننا سنشاهد ما يحصل بشكل مباشر تزيد من قدرتنا على المناصرة ضد هذه الانتهاكات والضغط على دولة اسرائيل لتكون أكثر عرضة للمساءلة. وصلت مع مجموعة من ناشطي نصف الكرة الشمالي والجنوبي حيث بدت الفروقات واضحة عبر هذه الخطوط، فهؤلاء القادمون من أراضٍ مستعمرة سابقاً شعروا بقدر أكبر من الاطمئنان مع الوضع الكائن والثقافة الفلسطينية التي وجب عليهم العمل فيها. في حين كان من الواضح أن القادمون من بلدان غربية لم يكونوا على دراية بحقب التهميش والاستعباد والبيروقراطية الفاسدة. بشكل عام يممكن القول إن القادمين من بلدان الجنوب كانوا أكثر قدرة على التضامن مع الفلسطينيين أما القادمون من بلدان غربية بدوا أكثر إيماناً بالتأثير على الوضع كمخلّصين – مع وجود بعض الاستثناءات. 

بالعودة إلى الضغوطات التي صادفتنا بادئ الأمر والتي بدت أعقد بكثير في ذلك الوقت: البيئة غير المألوفة، اختلاف التقاليد الاجتماعية، التوتر وقلة النوم – كان هناك عوامل عقائدية دفينة فرقت بين هؤلاء الزائرين القادمين بحسن نية حسب زعمهم لتقديم المساعدة. في العديد من برامج المعونات الخارجية غالباً ما يؤثر التفاعل على هؤلاء الزائرين المتحمسين جداً أكثر منه على السكان المحليين. البعض أولى لعواطفه تجاه الوضع القائم أهمية أكبر من قصص الفلسطينيين – بحيث تكون محنة هؤلاء خلفية لاستطلاعاتهم العاطفية. خلال أحد الاجتماعات سأل أحد المتطوعين كيف يمكنه أن يفسر مشاعره تجاه هذا الوضع عندما أجابه المدير، " الأمر ليس متعلق بك". فقد يعبر عن التوقعات والميزات الثقافية بشكل أكثر مما ينبغي أن تكون عليه في الواقع.  وهذا ينطبق خصيصاً على الأشخاص الباحثين عن تجارب ذاتية غرائبية حيث يرغبون بإغراق أنفسهم ضمن حدود الثقافة الجديدة بطريقة فلكلورية – مثل نوع من فكاهة لورنس العرب.

بدى أن لدى القادمين من مناطق كانت مستعمرة سابقاً قدرة أكبر على فهم المجتمعات الفلسطينية التي وصلوا إليها، وغالباً ما كانت الروادع الاجتماعية المشتركة مألوفة بالنسبة لهم. وقد سببت تلك الأريحية في التعامل بعض التوتر بالنسبة لشخص مثلي (مع عربيتي الفقيرة، معرفتي المحدودة بالمسلمين وبشرتي الداكنة) حيث حظيت بتقبل أسرع مما رغب به أي من القادمين من بلدان غربية. في كثير من الأحيان كانت تختلط في أذهان الغربيين مبادرات حسن الضيافة مع المشاعر الحقيقية وقد حاول بعضهم فرض صداقات على السكان المحليين في حين كان القادمون من العالم الثالث مدركين لحقيقة أن التلميحات المهذبة لا تعني شيئاً أبعد من ذلك. وبسبب تلك الأطر الثقافية والإيديولوجية المختلفة، فهم كل شخص تفاعله مع الفلسطينيين الذين قابلهم بشكل مختلف. ومع ذلك تمتع هؤلاء القادمون من الدول الثرية بقيمة سياسية أكبر لتوقع السكان أن باستطاعتهم التأثير على السياسيين في بلدانهم الأم.

معظمنا وصل إلى هناك مع أفكار مسبقة حول الصراع وأين يجب أن يكمن تعاطفه بشكل يتوافق مع أهداف منظمته. ولكن بالنسبة للذين توجب عليهم العمل في مناطق سكانها من المسلمين واليهود، كان هناك جهل بغيض تجاه كلا المجموعتين. حيث التعليقات على المسلمين كانت عنصرية فوقية بينما وصلت لحدود معاداة السامية بالنسبة لليهود. وحدها فكرة أن شخص دخيل يمكنه التعامل مع مهمته في دعم السلام في الوقت الي يزدري فيه الأشخاص المتأثرين مباشرة تبدو استعمارية بشكل يثير الاشمئزاز.  

لم اختبر الصعوبات التي يعاني منها بعض الفلسطينيون الذين تحدثت معهم خلال فترة إقامتي حيث توافرت لي كافة التسهيلات. كنت أخرج لمقابلة أشخاص ليس لديهم مياه نظيفة للشرب وأعود بعدها لمنزلي المؤقت حيث هناك الكثير من القوارير، كأنك تناقش المجاعة مع أناس يموتون جوعاً ومعدتك ممتلئة. (يجعلك هذا تحس بأنك شخص حقير ذو مزايا)  

كنت أقابل أناساً مختلفين كل يوم وأتعرف على حياتهم في ظل الاحتلال. قابلت أناساً ممن أخبروني قصصاً مأساوية للغاية، شباب لا مبالين بكل هذا وبعض الدجالين الصريحين. وعُقدت لقاءات مع منظمات أخرى مثل الصليب الأحمر والأمم المتحدة – لقاءات لم تكن في حياتها مثمرة إلا لتكديس المزيد من الوثائق وبشكل رئيسي أوراق المعلومات والخرائط. كانت هناك بعض الرحلات إلى "إسرائيل نفسها" والتي تضمنت زيارة إلى متحف المحرقة في القدس. 

بالنسبة لتلك اللقاءات مع المنظمات الأخرى، كثيراً ما كنت أتوجه إلى اللقاء وأجد أجنبياً غالباً ما يكون من إحدى الدول الغربية قد وصل للتو إلى الضفة ولكنه في نفس الوقت "مصدر المعرفة" الذي على الرجوع إليه لاكتساب فهم أعمق حول الوضع الراهن. جلست مع أحد الخبراء المشهود لها من قبل أعضاء الفريق السابق من حيث خبرتها بالمجتمعات المحلية ليتبين لي لاحقاً مما قيل لي في تلك المجتمعات أنها بالكاد تكلمت معهم وعادة ما كانت تحافظ على مسافة أمان "صحية" عند زيارتها للقرى، ولكن يبقى اعتبار هؤلاء "المستأمنون" مصادر أغنى للمعلومة من هؤلاء الذين يزعمون تمثيلهم. في العموم يقدم الغربي المعلومات لغربي آخر بحيث يمكنهم التفاهم والعمل بفاعلية أكبر من دون الخوض في التعقيدات الثقافية المزعجة أو التعامل بشكل مباشر مع الناس المحليين.  

كان معظم الإسرائيليين الذين تعاملت معهم من الجنود بالإضافة إلى الاستماع لمحاضرات بعض الكيبوتس الليبراليين والذين زج بهم ليخبرونا المزيد عن إسرائيل وثقافتها. لكن ذلك لم يقدم نظرة أوسع عن المجتمع الإسرائيلي وتعقيداته لا بل أدى إلى فهم أحادي الجانب. لم يتفق الجميع معي حول أهمية معرفة المزيد عن اليهود ومجتمعهم. الكثير كانوا مخلصين أكثر للقضية الفلسطينية ولم يروا للتفاعل الأكبر مع الإسرائيليين أي قيمة مقارنةً بتجاربهم الميدانية، الأمر الذي كان مفهوماً.

القضية الأساسية كانت أن نرى الصراع بشكل مباشر، أن نفهم كيف يؤثر على حياة الناس ونطلع الآخرين على ما شاهدناه واختبرناه. لقد رأيت، تعلمت وشعرت بأمور كثيرة (مثل الغاز المسيل للدموع على الوجه) من خلال مقابلة فلسطينيين وإسرائيليين وبسبب ذلك التفاعل خرجت بسرديات أكثر مما كنت أنوي. عدت من هناك وأنا أتساءل حول تلك الأموال والموارد التي تنفق على أجانب ليقوموا بتنقية قصص الصدمات للآخرين الذين يتلقونها بشكل غير مباشر. قابلت أناساً ممن استثمروا الكثير في حقوق الفلسطينيين ولكنهم غير مهتمين بهذا القدر بقضايا انتهاك حقوق الإنسان أو التاريخ الاستعماري في بلدانهم. قابلت من هم واثقون أكثر مما ينبغي بنظرتهم الثاقبة القادرة على خلق سلام مستدام من دون أن يزعجوا أنفسهم في فهم السكان المحليين. فلسطين مشبعة بما يمكن تسميتهم فاعلو الخير ممن لا يقدمون الكثير في الحقيقة ويبقى الصراع مستمراً. 

 

 

 

 

Robin Asbury